.النوبة لمشاكل والابتلاءات المصاحبة للتهجير عبر السنوات
في مطلع القرن العشرين كانت بلاد النوبة تتكون من 39 قرية على امتداد 350 كيلومترا جنوب أسوان حتى خط عرض 22 (وادي حلفا) على ضفتي النيل شرقا وغربا .
وتتكون القرى النوبية من مجموعات متباعدة من المساكن تفتح أبوابها على نهر النيل، وامتدت تلك المساكن في نجوع بلغ مجموعها 535 نجعا (مرجع 4 ص 42) .
وتميزت مساكن النوبة عن غيرها من المساكن بالمناطق الأخرى في عدة وجوه أهمها ارتباطها باختيار أماكن البناء على مستويات الأرض ذات الطبيعة الصخرية، إذ تتدرج الأراضي في الانخفاض من الشرق والغرب نحو النيل، فكان من الطبيعي أن تجد غرف البيت الواحد على اتساع المساحة المقامة عليها تتفاوت في ارتفاعاتها ليسمح بوجود تيارات هوائية، ويبلغ ارتفاع الجدار حتى أربعة أمتار، ونظرا لطبيعة المناخ الجافة الحارة فإن العمارة النوبية تواءمت مع البيئة وتميز هذا التشييد بوحدة أساسية هي الحوش السماوي الذي تفتح عليه حجرات البيت.
إنشاء خزان أسوان (1902م) :
عند انتهاء بناء خزان أسوان عام 1902 ارتفع منسوب المياه خلف الخزان إلى 106 أمتار ليغرق مساكن وأراضي زراعية وسواقي ومزروعات ونخيل وأشجار عشر قرى نوبية هي : دابود ودهميت وأمبركاب وكلابشة وابوهور ومرواو وقرشة وكشتمنة شرق وغرب وجرف حسين والدكة ، (مرجع 4 ص 23) . واجهت تلك القرى العشر آثار بناء الخزان وحدها دون أن تنال اهتماما رسميا أو إعلاميا في ذلك الوقت .
التعلية الأولى للخزان (1912م) :
لم تلتئم بعد جروح أبناء النوبة من أثر بناء الخزان، فإذا بكارثة التعلية الأولى للخزان تتسبب بطوفان جديد عام 1912، ليرتفع منسوب مياه الخزان إلى 114 مترا ويتسبب في إغراق ثماني قرى نوبية أخرى هي قورتة والعلاقي والسيالة والمحرقة والمضيق والسبوع ووادي العرب وشاترومة. ومرة أخرى استخفّت الدولة بآلام النوبيين وكارثتيهم، ولم ينصف أحد هؤلاء النوبيين المنكوبين وكأنهم خارج نطاق المواطنة، كما لم تتناول وسائل الإعلام كارثتهم وما حل بهم، حتى السياسيون والأحزاب المختلفة في ذلك الوقت لم يلتفتوا إلى تلك الكوارث التي تحل بالنوبيين جنوب مصر .
التعلية الثانية عام 1932م:
النوبيون الذين فقدوا كل ما يملكون من حطام الدنيا وأصبحوا منكوبين قولا وفعلا، فاجأتهم التعلية الثانية للخزان عام 1932 فأغرقت مياهها هي الأخرى عشر قرى نوبية هي المالكي وكروسكو والريقة وأبوحنضل والديوان والدر وتوماس وعافية وقتة وأبريم وجزيرة أبريم، بينما أضيرت بقية القرى النوبية الإحدى عشرة الأخرى وهي عنيبة ومصمص والجنينة والشباك وتوشكى شرق وغرب. حينئذ ارتفع أنين النوبيين بالشكاوي. وبعد أكثر من ثمانية عشر عاما من بناء الخزان...
بنود مجحفة ونخطي إجراءات قانون نزع الملكية
أصدرت الدولة القانون رقم 6 لسنة 1933 الخاص بنزع ملكية أهالي النوبة وتقدير التعويضات اللازمة لمواجهة كوارث أعوام 1902 و 1912 و 1932، إلا أن القانون حفل ببنود مجحفة في حق النوبيين، منها ما تم رصده في مذكرة النادي العربي العقيلي عن تعويضات منكوبي خزان أسوان والتي أرسلت إلى مجلس الشيوخ بتاريخ 16 صفر 1363هـ 12 فبراير 1944 ميلادية
وقبل أن نبين لحضراتكم الأساس الذي قام عليه تقدير التعويضات، نرى أنه لابد من ذكر القانون رقم 6 لسنة 1933 الذي لجأت إلى إصداره حكومة ذلك العهد متخطية الإجراءات العادية التي ينظمها قانون نزع الملكية العام، وذلك لحاجة في نفس أعضائها. وقد أبان عنها معالي شفيق باشا وزير أشغال ذلك العهد عند عرض ذلك القانون على مجلس الشيوخ بجلسة 29 فبراير سنة 1933 إذ قال معاليه "أنفقت مصر الملايين على إنشاء خزان أسوان وتعليته وكل حضراتكم متشوق إلى زيادة المياه وآمالنا الآن الطريقة لتخزينها فلو أننا انتظرنا خمس سنوات حتى تتم إجراءات نزع الملكية بالطريق العادي لحرمنا إذن مصر من المياه حرمانا مادياً بدون مبرر.
فاتباعنا القانون العادي في إجراءات نزع الملكية هو حرمان مصر من المياه طول هذا الزمن.. وإذا مكننا القانون المذكور من وضع اليد في الحال على الأطيان فانه لا يمكن لا للقضاء ولا للخبراء ولا أصحاب الشأن من معرفة معالم الأرض بعد غمرها في نوفمبر المقبل".
فرد عليه شيخ أغضبه تبرير الوزير لهذا القانون قائلاً "أين كنت مدة الثلاث السنوات الماضية حينما تقررت التعلية؟ لم لم يعمل هذا من قبل وهل تنطبق السماء على الأرض لو أجلنا إملاء الخزان للمنسوب الجديد سنة أخرى وقد مضى علينا ثلاثون سنة على هذه الحال؟"
التعسف في تطبيق القانون
والقانون المذكور قضي بنزع ملكية المناطق المنكوبة "النوبية" بأجمعها ولم يترك للمنكوبين فرصة للمعارضة في تقدير التعويضات إى فرضتها الحكومة تعسفاً إلا مدة 15 يوماً وهي مدة قصيرة لم يتمكن إلا الكثيرون خلالها من الاطلاع على مقدار تعويضاتهم هذا فضلاً عن جهل أغلبية الأهالي بطرق المعارضة في التقدير حتى أن الكثيرين منهم لم يعلموا بذلك الطريق القانوني للمعارضة إلا بعد فوات ميعادها (مرجع 5 ص 27).
توازى سلسلة المظالم على النوبيين مع تعويضات هزيلة لا تغني ولا تسمن من جوع. ولنبين فضيحة تلك التعويضات نقرأ ما كتبه الأستاذ محمد مراد سنة 1947 ميلادية ( ألقى المغفور له الأستاذ عبد الصادق عبد الحميد بياناً في مجلس النواب أثناء نظر ميزانية وزارة الأشغال سنة 1936 دلل فيه على أن التعويض مع كثير من التساهل والتجاوز كان يجب أن يقدر بمبلغ 3600000 ثلاثة ملايين وستمائة ألف جنيه، على حين أن الحكومة قدرتها بمليون وسبعمائة ألف ثم خصمت منها حوالي نصف مليون بأساليب جهنمية ولا يزال من هذا المبلغ بقية في ذمة الحكومة إلى اليوم وذلك بفعل موظفيها الذين يريدون التنزه كل عام في بلاد النوبة وجوها البديع في الشتاء مع التمتع ببدلات السفريات). (مرجع 5 ص 25).
ولنبين كيف يستهين الموظفون بالنوبيين ولا يعتبرونهم مواطنين مثلهم، نستمر في نقل ما كتبه الأستاذ محمد مراد، فحين قرر وزير الأشغال عام 1944 توزيع 406 فدان على بعض المنكوبين النوبيين في ناحية القرنة البعيرات اعترض الموظفون وكتبوا مذكرة قائلين فيها (أن هذه الأطيان أجود من أطيان بلاد النوبة وأن التعويض يجب أن يكون مماثلاً)
(مرجع 5 ص 23).
هذا هو أسلوب موظفي الحكومة كباراً وصغاراً تجاه النوبيين الذين ضحي بهم في سبيل عموم مصر، لم يقدر مسئول منهم أن هؤلاء البشر أخرجوا من ديارهم وأوطانهم وأنهم في حالة بائسة.
هذه المظالم تم تجاهلها من قبل أصوات كانت تنادي آنذاك بالاستقلال والحرية والمساواة لمصر، مما زاد من المرارة والشعور بالهوان لدى النوبيين. مع التجاهل التام من قبلالمطالب النوبية في البرلمان
وإزاء تلك المحنة، انتقل النوبيون إلى سفوح الجبال ليبنوا مساكن لهم على طول نهر النيل، فاستنزفت تلك المساكن الجديدة أكثر مما أخذوه من تعويضات سخيفة مقابل أراضيهم ومساكنهم الأصلية التي غرقت. وفي عهد حكومة مصطفي النحاس عام 1936
كان أول مطلب للنوبيين حمله نائب النوبة في البرلمان: عبد الصادق عبد المجيد بعد الانتخابات، هي أعاده النظر في التعويضات التي صرفت للأهالي ومنح أبناء النوبة أراضى صالحة للزراعة شمال أسوان وجنوب قنا بدلا من الأراضي التي أغرقها مياه الخزان؛ والجدير بالذكر أن مصطفي النحاس قال عند إلقائه خطاب العرش في تلك الدورة البرلمانية (وستعمل حكومتي على إقامة مشروعات للري في بلاد النوبة تعويضا عما فقدوه وتقديم كافة الخدمات لأهلها).
ونتيجة لشعور النوبيين بتشعب مشكلتهم وأهمية منطقتهم وحيويتها لأمن وادي النيل الإستراتيجي وخاصة لمصر وضرورة أستقرارها؛ تقدم النائبان النوبيان في البرلمان عام 1947:سليمان عجيب وشاهين حمزة باقتراح مشروع ربط سكة حديد مصر والسودان بتكلفة 4 مليون جنية، ولم تأخذ الحكومة هذا الاقتراح بمحمل الجّد؛ وهكذا تم فصل السودان عن مصر كما هو معروف فيما بعد.
تغيرت البيئة النوبية نتيجة لزيادات منسوب النهر المتتالية فتحولت إلى بيئة تنتشر فيها الأمراض والأوبئة مثل التيفود والدفتريا والحمى والملاريا والبلهارسيا، وهلك الكثير من النوبيين نتيجة سوء التغذية وانعدام الخدمة الصحية، (مرجع 1 ص 27).
ظلم البيروقراطية عام 1960:
ومرة رابعة، بدأت بشائر طوفان جديد، ففي بداية عام 1953 بدأت الدولة تجري دراسات حول مشروع السد العالي من كل جوانبه الهندسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي إطار تلك الدراسات أجرت وزارة الشئون الاجتماعية مسوحات سكانية واجتماعية للنوبيين عام 1960 يتضح منها الآتي:
• إجمالي تعداد النوبيين 98609 نسمة (ثمانية وتسعون ألفاً وستمائة وتسعة)
• المقيمون منهم 48028 نسمة (ثمانية وأربعون ألفاً وثمانية وعشرين)
• والمغتربون سعيا وراء توفير لقمة العيش 50581 نسمة (خمسون ألفاً وخمسمائة واحد وثمانين)
• أما عدد الأسر المقيمة بالنوبة فبلغت 16861 نسمة (ستة عشر ألفاً وثمانمائة واحد وستون)
• الأسر المغتربة 8467 نسمة (ثمانية آلاف وأربعمائة سبعة وستون) (مرجع 4 ص 21).
دراسة مستقبل المنطقة
ثم تشكلت بعد ذلك لجان لمواجهة الآثار الجانبية لمشروع السد العالي، ودراسة مستقبل المنطقة بقراها التسع والثلاثين وسكانها المائة ألف وما يملكون من أراضي زراعية ومساكن ومواشي وحياة استمدت كينونتها مقبل التاريخ بآلاف السنين. بلاد مترعة بالتراث النوبي الحافل بالعديد من الحضارات التي عاشتها المنطقة منذ العصر الحجري وحتى الآن كما بينا سابقا .
وباستقراء الإحصاءات السابقة يتضح أن نسبة الأسر النوبية التي تعيش بعيدا عن موطنها نتيجة لإفقار المنطقة من أثر بناء الخزان وتعليتيه بلغت 5ر33% هاجرت بالكامل وأن 5ر28% من الأسر هاجر بعض أفرادها. كما تبرز إحصائية وزارة الشئون الاجتماعية أن نسبة السكان النوبيين من ذوي المهن بلغت 23% من إجمالي تعداد النوبة، في حين نجد أن نسبة 7ر26% من ذوي المهن في مصر عموما في ذلك الوقت،
توزيع نسب النوبيين
وتتوزع نسبة النوبيين من ذكور وإناث على المهن على الوجه الآتي :
9,8 خدمات 5 صناع 4,6 نقل - محاجر 71 زراعة 3,3 إدارية وكتابية 3,1 تجارة 3,2 مهن علمية ذكور %
2,1 خدمات 1,4 صناع - نقل - محاجر 96 زراعة - إدارية وكتابية - تجارة - مهن علمية إناث %
7 خدمات 3,6 صناع 2,9 نقل - محاجر 80,3 زراعة 2,1 إدارية وكتابية 2 تجارة 2 مهن علمية تعداد مصر
ويتضح من الجدول السابق أن نسبة المشتغلين بالزراعة من النوبيين أعلى من النسب على مستوى الجمهورية. والغريب أن نسبة المهاجرين النوبيين من قراهم المشتغلين بالزراعة لم تزد عن 1% من إجمالي النوبيين العاملين بالزراعة. (مرجع 4 ص55). هذه الملاحظة تدحض الكثير من المزاعم التي روجها المغرضون في السابق والحاضر من أن النوبيين لم يشتغلوا بالزراعة. فهذه الإحصاءات بينت أن النوبيين فلاحون أصلاً، وأن ضياع مهنة الفلاحة منهم سببها غرق أراضيهم وفشل المسئولين في إدارة عملية التهجير وعدم تفكيرهم في إعداد النوبيين لبيئتهم الجديدة.
وليداري الموظفون فشلهم، اخترعوا الأكذوبة التي روجوها بأن النوبيين غير مزارعين وفاشلين في فلاحة أراضيهم التي تسلموها في التهجير. والفاشلون هم، والكاذبون هم.
صدمة التهجير 63/1964:
واصلت الدولة تنفيذ مشروع السد العالي، وبدأت الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة، أما النوبيون كبشر ومواطنين وهم الذين تعايشوا مع هذه الآثار فجاء حظهم العاثر في ذيل اهتمامات الدولة والمجتمع الدولي، فتم ترحيلهم على عجل إلى هضبة كوم أمبو وإسنا، إلى منطقة لا نهر فيها ولا إرث ولا تراث. بقي معهم ما حمل وجدانهم من عشق لوطن فقدوه تحت مياه السد العالي. تم ترحيل النوبيين دون ما أية دراسات تأخذ في الاعتبار آدميتهم وتاريخهم ونضالهم وتضحياتهم في سبيل الوطن.
هكذا تم ترحيلهم عشوائياً وفقا لجدول زمني مختزل سريع، رغبة في إخلاء بلاد النوبة قبل 15 مايو 1964 موعد تحويل مجرى نهر النيل، فترك معظم النوبيون الكثير من متاعهم في الوطن المهجور وحشروا في صحراء كوم أمبو وإسنا في مساكن خالفت المساكن التي ألفوها وخلافا للمسكن النموذجي الذي وعدوا به وشاهدون قبل عملية التهجير. بالإضافة لعدم تواجد مياه صالحة للشرب ولا كهرباء، مع استحالة تربية مواشي وطيور وهي تمثل أهم عناصر الحياة والدخل بالنسبة للمواطن النوبي المزارع؛ وبالتالي تعذر نقل هذه الحيوانات معهم إلى المهجر الجديد؛ في حين ان إخوانهم النوبيون السودانيون وأبناء عمومتهم فعلا لا قولا أثناء هجرتهم إلى خشم القربة(مهجرهم الجديد) خصصت الحكومة السودانية لكل قطار مصاحب لأفواج المهاجرين طبيبا بيطريا لرعاية حيواناتهم الزراعية.
المشاكل والابتلاءات المصاحبة للتهجير
تكررت مأساة أشد هولا مما حدث من ربع قرن مع بلاءات خزان أسوان، فلا المساكن الجديدة استكملت ولا الأراضي الزراعية استكمل استصلاحها ولم تسلم للنوبيين إلا بعد مرور من أربع لخمسة سنوات، وأصيب الأطفال بنزلات معوية وفقد الكثير منهم حياتهم، والشيوخ أصيبوا بالاكتئاب نتيجة اختلاف المناخ وصعوبة ملاءمة المنطقة لأسلوب ونمط معيشة النوبي فمات منهم الكثير
عذر أقبح من الذنب
كانت حجة الحكومة بموظفيها والتي حاولت لجنة تقصي الحقائق المنبثقة من مجلس الأمة في مضبطة 5 يناير 1970 ملحق 6، أن ضخامة المشروع السبب في كل العيوب مع عامل الزمن وضيق الوقت. نفس الحجة التي هي أقبح من ذنب، والتي ادعاها وزير الأشغال مجلس الشيوخ بجلسة 29 فبراير سنة 1933، أي قبلهم من سبعة وثلاثين عاماً كاملة. ومازالت التبريرات غير المقبولة مستمرة ومازالت الاستهانة بالنوبيين قائمة.
يقول إبراهيم عبد الرسول (مرجع رقم 1 ص 39) (الشئون الاجتماعية تصرف مبلغ ثلاثة جنيهات كمعاش شهري للأسرة النوبية المهجرة، هذا المبلغ لا يكفي لتغذية ما لدى الأسرة من ماعز وأغنام، حيث وصل سعر ربطة البرسيم في ذلك الوقت عشرة قروش).
الشروط المبرمة مع الدولة
ارتضى النوبيون بالهجرة إلى كوم أمبو وإسنا وفقا لشروط أبرموها مع الدولة تتلخص في أرض زراعية بالنوبة مقابل أرض زراعية بالمهجر ومسكن في النوبة مقابل مسكن بالمهجر، طبقاً لما شاهدوه وعاينوه قبل الهجرة في أسوان كمسكن نموذجي. وبناء على تلك القاعدة القانونية قرأ النوبيون كافة القرارات والقوانين التي صاحبت عملية التهجير، وعلى الأخص قرار رئيس الجمهورية بمرسوم القانون رقم 67 لسنة 1962 في شأن نزع ملكية الأراضي التي تغمرها مياه السد العالي، وكذلك القرار الوزاري الذي أصدرته الشئون الاجتماعية برقم 106 بتاريخ 24/9/1962 بشأن قواعد تعويض وتمليك إسكان أهالي النوبة. لكن التنفيذ جاء مخيبا لآمال النوبيين الذين ظنوا أن الدولة ستعاملهم معاملة صغار المزارعين أو شباب الخريجين أو حتى المعدمين الذين تم تعويضهم في مديرية التحرير والنوبارية، وهؤلاء لم يكونوا يملكون إرثاً ولا وطناً ضحوا به مثلما ضحى النوبيين.
لم يتسلم النوبيون مسكناً وخمسة أفدنه وحيوان زراعي لبدء حياة جديدة وكريمة، أسوة بالمعدمين الذين لم يضحوا ولم يعانوا مثلما عانى النوببيون.
جسامة الغبن الذي وقع على النوبيين
ولكي ندرك حجم الإجحاف والظلم الذي وقع على النوبيين المصريين، دعونا نلقي نظرة سريعة مقارنة لما حدث للنوبيين السودانيين الذين هُجروا من قرى وادي حلفا إلى منطقة التهجير الجديدة (خشم القربة) حتى نتبين جسامة الغبن الذي وقع على النوبيين المصريين. ترى ماذا فعلت الحكومة السودانية لتهجير النوبيين هناك؟ في خشم القربة المسكن مساحته 350 متر مربع إضافة إلى حديقة صغيرة أمام المسكن وحظيرة للبهائم. لكن في كوم أمبو وإسنا (مصر) أكبر مسكن مساحته 150 متر مربع بلا حديقة ولا توجد حظيرة للبهائم . والنوبي السوداني يحصل على مسكن بصرف النظر عن كونه مقيما أو غير مقيم. بالنسبة للنوبي المصري المسكن للمقيم فقط أما المغترب –أطلقت الحكومة هذا المسمى لغير المتواجد في قريته النوبية أثناء الحصر، بسبب بحثه عن الزرق بعد أن أغرقت الحكومة أرضه- فلم تبن لهم مساكن حتى يومنا هذا، أي بعد مرور أكثر من أربعين عاما على الهجرة، لم تنفذ الحكومة ما وعدت به النوبي المصري المغترب كما أطلقت عليه. وبالنسبة للأراضي الزراعية فقد كانت الحكومة السودانية رحيمة بالنوبيين حيث لم تكتف بقاعدة الفدان مقابل الفدان، بل أضافت لكل صاحب مسكن سواء كان مالكا لأرض زراعية أو معدما مساحة 15 فداناً (حواشة) وضعف المساحة للنوبي الذي يملك أرضا زراعية، أما في مصر فقد وزعت الحكومة على المقيمين ما سمي بفدان الإعاشة والذي مساحته الحقيقية من 14 – 18 قيراط للأسرة الواحدة. فما أشد الظلم والهوان المستمرين على النوبيين المصريين.
قانون مخالف للقواعد الدستورية
النوبيون المصريون يعتبرون أن القانون 67 لعام 1962 مخالف للقواعد الدستورية المعمول بها حيث أغفلت حق الاعتراض على التعويضات وهذا حق لكل مواطن طبقاً لقوانين الدولة. واشترط القانون المذكور أن يقدم الطاعن اعتراضه للجنة مشكلة من عضو مجلس الدولة بالإضافة إلى أحد موظفي المساحة، وهي نفسها الجهة التي قدرت القيمة النقدية للتعويض. أما القرار الوزاري رقم 106 لسنة 1962 والذي خصص المساكن في النوبة الجديدة للأسرة التي تتكون من زوجين ووالدين والأبناء والأحفاد في مسكن واحد (مادة 12)، وهذا يتنافى مع مفهوم الأسرة في المجتمع المصري حيث يعتبر أن الأسرة تتكون من زوجين وأطفال فقط. وينتظر النوبيون المصريون في إعادة المفهوم القانوني الأساسي لكل من القانون والقرار السابقين حتى لا يورثوا مرارتهم وضغينتهم للأجيال النوبية الشابة، ولاسيما وأن هذه الأجيال ليس لديها القدرة على الصبر والتروي في المطالبة بحق تجاهلته الدولة منذ أربعين سنة .
إطلالة على تعويضات النوبيين
عند بداية عملية التهجير قدرت الحكومة قيمة التعويضات التي تصرف للنوبيين كالآتي :
اطيان زراعية 15.957 فدان التقدير (الثمن ) 2.155.720 جنيه مصري
النخيـــل 1.044.380 نخلة التقدير (الثمن ) 1.973.4780 جنيه مصري
السواقي 1.064 ساقية التقدير (الثمن ) 20.920جنيه مصري
المباني 35.966 منزل التقدير (الثمن ) 1.886.700جنيه مصري
هذه المبالغ الهزيلة تم تقديرها على أسعار عامي 1902و1912 وتم صرف نصف قيمتها عامي 63 و1964 دون أي مراعاة لفروق الأسعار والتضخم الذي صار مع مرور السنين، فهل يعقل أن تقدر ثمن النخلة بخمسين قرشا وأحيانا بعشرة قروش، وفدان الأرض بأربعين جنيها وأحيانا بعشرين جنيها، أما الغرفة المسقوفة في المسكن فقدرت بخمسة جنيهات فقط. هكذا أمر من بيده السلطة والتسلط وهي قرارت إذعان على مواطنين في حالة ضعف وضياع، وكما يقول الأستاذ إبراهيم عبد الرسول (مرجع رقم 1 ص97) النخلة في رشيد بثلاثة وأربعين جنيها وفي النوبة المصرية تساوي خمسون قرشا وفي النوبة السودانية فبخمسة عشر جنيها، علما بأن نوعيات البلح الإبريمي في مصر هو نفس البلح الإبريمي هناك. يذكر ماهر ذكي في كتابه (مرجع رقم ص130) إجمالي الميزانية التي تم صرفها في عملية التهجير في البنود الآتية:
بناء مساكن النوبة الجديدة 18450000 جنية
التعويضات للأهالي 200000 جنية
تكاليف حصر الممتلكات 462000 جنية
المساعدات والإغاثة 820000 جنية
النقل المائي 300000 جنية
النقل البرى 84000 جنية
المصروفات الإدارية 250000 جنية
تكاليف إصلاح 15 ألف فدان بكوم أمبو 4366000 جنية
الإجمالي العام 24932000 جنية
قيمة التعويضات اقل المصروفات الإدارية
وهذه الأرقام توضح بجلاء مدى الغبن الواقع على النوبيين؛ فقيمة تعويضاتهم النقدية أقل من المصروفات الإدارية التي لزم أنفاقها على إجلائهم إلى كوم أمبو واسنا!! بل نزيد ونقول أن جريدة الأهرام نشرت في عددها الصادر يوم 13 مارس 1963 ما يفيد أن التهجير ينحصر في المدة من الخامس من أكتوبر إلى السابع من مايو 1964 مع تصريحات جديدة مفادها أن تعويض أهالي النوبة عن غرق بلادهم تحت بحيرة السد العالي تبلغ 6ر5 مليون جنية ستصرف لعدد 16861 أسرة من الأهالي، وتوضح الجريدة بنود الصرف على النحو التالي: 25 ألف مسكن يقدر ثمنها بمبلغ 1ر9 مليون جنية؛ و15 ألف فدان من الأراضي الزراعية ثمنها 2ر2 مليون جنية؛ و1000 ساقية وبئر مياه شرب ثمنها 20 ألف جنية؛ ومليون نخلة ثمنها 2 مليون جنية. هذا ما كتبته الأهرام. وطبقا لهذه الوعود المجحفة فالمسكن ثمنه 75 جنية؛ والفدان ثمنه 110 جنية؛ والساقية والبئر 20 جنيها؛ والنخلة ثمنها 2 جنية. فأين العدل في تلك القيمة الظالمة؟ وهل تعاملت الحكومات المصرية على تعاقبها، هل تعاملت مع النوبيين على أنهم فعلاً مواطنين مصريين؟
وبناء على ما سبق فالواجب على الدولة أن تعيد فتح ملف قضية التعويضات الظالمة التي صرفت للنوبيين نتيجة الإجلاء الذي تعرضوا لها عامي 63 و1964. واجب على الدولة وحق لنا معشر النوبيين ولن نتنازل عنه.
مشكلة الإسكان والسكان :
يتميز السكن في الموطن النوبي الأصلي بالحفاظ على العادات والتقاليد الاجتماعية التي يعتز بها النوبيون ومن أهمها التكافل الاجتماعي. والعمارة النوبية التي لخص فلسفتها شيخ المعماريين المهندس حسن فتحي بأنها "نظام حياة وليست إيواء" فالبيوت تطل على النهر العظيم، وفناؤها مكشوف إلى السماء ومزودة بحظيرة مستقلة للمواشي والطيور، والمسكن مقام على مساحة 350 – 500 متر مربع من خامات البيئة .
أما في المهجر فقد بنيت المساكن متلاصقة ضيقة وحشر فيها النوبييون، كما تخلل قراهم أسر غير نوبية مما ألغى الخصوصية النوبية وأسلوب التكامل الاجتماعي والأمني الذي توارثوه جيلا بعد جيل في النوبة الأصلية، بالإضافة إلى عدم استكمال المرافق اللازمة وعدم معالجة التربة غير الصالحة التي بنيت عليها هذه المساكن مما جعلها عرضة للانهيارات المتتالية، الأمر الذي تحمل معه النوبيون نفقات باهظة تزيد كثيراً عما تلقوه من تعويضات سابقة، لجعل تلك المساكن صالحة للسكن الآدمي ، (مرجع 4 ص 16). وهذا نفس ما حدث عند بناء الخزان عام 1902 ثم تعليته عام 1912 وتعليته الثانية عام 1932، ففي كل مرة يضطر النوبيون أن يبنوا بيوتهم أو يرمموها ينفقون أموالاً أكثر مما أخذوه كتعويض من الحكومات المتعاقبة.
ولتبيان حجم السكان في منطقة النوبة الأصلية قبل التهجير وبعده، نستعرض إحصائيات التعداد السكاني في المائة عام الأخيرة كي تتضح حجم المشكلة السكانية والإسكانية التي تعاني منها النوبة في الوقت الحالي
في سنة 1882كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 45708
في سنة 1907كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 618398 بزيادة 3.5%
في سنة 1927كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 58028 بنقصان بلغ( - 0.6% )
في سنة 1947كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 45169 بنقصان بلغ( - 2.2% )
في سنة 1960كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 44108 بنقصان بلغ( - 2.3% )
في سنة 1980 (قدر) تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 154033 بنقصان بلغ( - 11.3% )
في سنة 2000 (قدر) تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 143938 بنقصان بلغ( - 5.3% )
الارقام تقديرية في عام 1980/2000
تدهور مصاحب لتعليات الخزان
الملاحظة أن حجم السكان في بلاد النوبة تدهور في سنوات التعليات المتكررة لخزان أسوان إلى درجة انعدام الزيادة السكانية بل ونقصها في سنوات المحنة. وعند إجراء حصر لعدد المساكن في المنطقة عام 1962 قبل التهجير بلغ عددها طبقاً لتقديرات الحكومة حوالي 24 ألف مسكن، وقررت الحكومة حينذاك أن تبني في المرحلة الأولى 15.589 مسكناً بواقع 65% من العدد المطلوب و تم تأجيل بناء 8411 مسكناً في مرحلة تالية أطلق عليه إسكان المغتربين، وهي تسمية باكية مضحكة كما كان يراها أ/عبد الرحيم إدريس عضو مجلس الأمة في ذلك الوقت، هل أبجديات العمل الاجتماعي أن يسمى من ولد بمحافظة المنوفية و تمتلك أسرته مسكناً بالمنوفية ثم أنتقل إلى القاهرة للعمل أو خلافه، أن يسمى مغترب عن المنوفية !!!
بدأت محافظة أسوان فى تلقى طلبات مواطنيها من النوبيين المغتربيين من ضمن المستحقين لعدد 5221 مسكنا كتعويضات لأبناء النوبة بتكاليف إجمالية تبلغ 200 مليون جنيه
شهدت مصر خلال الأعوام القليلة الماضية حالة من الحراك السياسي والاجتماعي على خلفية سنوات طويلة من القهر والاستبداد عاشتها الجماهير المصرية تحت حكم مبارك. هذه الحالة تجسدت في ارتفاع أصوات كل المضهدين والمقهورين برفض سياسات الاستغلال والاستبداد، ولم تقتصر أصوات التغيير علي المطالبين بالديمقراطية وسقوط الديكتاتورية فقط، بل سمعنا أصوات كافة الفئات والشرائح والطبقات تعلن رفضها الخضوع لهذه السياسات. فسمعنا صرخات العمال المدوية التي أطلقوها في إضراباتهم واحتجاجاتهم المختلفة، وسمعنا أصوات المهندسين والمعلمين والأطباء برفضهم سياسات الإفقار، وسمعنا أصوات الأقباط يطالبون بوقف سياسات التمييز، وسمعنا أيضاً صوت قادم من الجنوب عانى طويلاً من الفقر والتهميش والتمييز، إنه صوت أهالي النوبة.
وعلى الرغم من أن قضية النوبة قديمة قدم الدولة المصرية الحديثة، إلا أن صوتها -كغيرها من أصوات المضطهدين- كان مدفوناً تحت سياط قهر واستبداد النظم المختلفة وآخرها نظام مبارك. وكغيرهم من المضطهدين أيضاً شاهدوا نور الشمس يتسلل من جدار الديكتاتورية المتصدع فارتفعت أصواتهم للمطالبة بحقوقهم المسلوبة عبر عشرات السنين.
لقد ارتبطت حياة أهالي النوبة عبر التاريخ بالعيش على ضفاف نهر النيل جنوب مصر وشمال السودان، وهناك تبلور نمط حياة كامل لجماعة بشرية مميزة ثقافياً ولغوياً واجتماعياً نتيجة الظروف الموضوعية التي فرضتها الحياة علي ضفتى النهر في هذه المنطقة.
وبقدر ما ساهم الموقع الجغرافي للنوبيين في تطوير هذا النمط من الحياة، بقدر ما كان وبالاً عليهم نتيجة رغبة الرأسمالية المصرية ودولتها في إحداث التنمية بما يعنيه ذلك من ضرورة ضبط نهر النيل المورد الرئيسي للمياه في مصر، الأمر الذي تطلب بناء السدود في الجنوب لاستغلال أكبر قدر من المياه التي كان يضيع معظمها في البحر وقت الفيضان. وكان خزان أسوان أول هذه المشروعات الكبرى للتحكم في مياه النهر، وتم تعلية الخزان عدة مرات، حتي جاء المشروع الأكبر وهو السد العالي. ومع كل مشروع كان النوبيون يدفعون الثمن غالياً، من تشريد وتهجير وتدمير لحياتهم، لأن المياه التي كان يحتجزها الخزان والتي تزداد مع كل تعلية ثم المياه التي احتجزتها بحيرة ناصر أمام السد العالي كانت تغمر أراضي النوبيين ومساكنهم فيضطرون للهجرة في ظل ظروف سيئة بلا مأوى أو تعويض مناسب عن ممتلكاتهم. وانتظر النوبيون –كغيرهم من فقراء مصر- أن تعود التنمية عليهم بشئ فلم يجدوا سوى مزيد من الإفقار.
النوبيون .. الإفقار بالتنمية ! كانت أولى مراحل التشتت التى واجهها النوبيون، فى العصر الحديث، خلال القرن التاسع عشر بعد فرض ترسيم الحدود بين مصر والسودان بشكل قسري لم يراعي التجمعات البشرية وخصوصيتها. فقد صدر عام 1841 فرمان الخليفة العثماني بترسيم الحدود الجنوبية لمصر، ثم تلا ذلك قرار وزير الداخلية بتعديل حدود مصر والسودان بناءاً على الاتفاقية الثنائية بين مصر والاحتلال البريطانى عام 1899، حيث تم فصل عشرة قرى نوبية تابعة لمركز حلفا بمحافظة النوبة وهى القرى الواقعة جنوب خط عرض 22 لتدخل ضمن حدود السودان. أما الجزء الواقع داخل الحدود المصرية فقد امتد من قرية أدندان جنوباً حتى الشلال شمالاً وقد بلغ تعداد سكانها آنذاك 34,942 ألف نسمة، ويبلغ زمامها 17,142 ألف فداناً، كما تم تغيير اسم محافظة النوبة التى كانت معروفة بمديرية الحدود إلى مديرية أسوان. وهكذا فصلت الحدود الإدارية التى وضعها الإستعمار بين أبناء النوبة ليواجهوا بعد ذلك صعوبات فى التواصل فيما بينهم.
ورغم ذلك بدأت المحنة الحقيقية لأبناء النوبة مع بداية تفكير الدولة المصرية فى التحكم فى مياه النهر بشكل أكبر للاستفادة من المياه المهدرة وقت الفيضان حتى يمكن التوسع فى زراعة أراض جديدة والتحول من نظام رى الحياض إلى الرى الدائم. فكان التفكير فى إنشاء سد فى الجنوب عند أسوان. وبالفعل تم بناء خزان أسوان شمال قرية الشلال النوبية عام 1902 ليحتجز ورائه فائض من المياه بلغ منسوبه 106 متراً مما تسبب فى إغراق أراضى النوبة بما عليها من مساكن ومزروعات وسواقى ونخيل فى عشر قرى نوبية هى. وبينما كانت تجرى عمليات البناء تشكلت لجان لتقدير تعويضات النوبيين عن أملاكهم، حيث تم تصنيف هذه التعويضات إلى قسمين. الأول يشمل الأراضي التى تغمرها مياه الخزان وتنحسر عنه بعد فتحه فيتم زراعتها، وفى هذه الحالة سوف تدفع الحكومة ثمن النخيل والمساكن. أما القسم الثانى من التعويضات فيندرج تحته الأراضي التي تغمرها المياه طوال السنة فلا ينتفع بها، وفى هذا القسم تلتزم الحكومة بدفع ثمن الأرض والمساكن والنخيل. وقدرت هذه التعويضات بـ 80 ألف جنيه، وهو مبلغ هزيل، الأمر الذى رفضه النوبيون. إلا أن الحكومة لم تلتفت إلى مطالب النوبيين وتم استصدار أمر عال بنزع الملكية للمنفعة العامة فى أول يوليو 1902.
ثم جاءت التعلية الأولى للخزان عام 1912 ليرتفع منسوب المياه إلى 114 متراً وتغرق ثمانية قرى نوبية أخرى. وفى عام 1933 تمت التعلية الثانية للخزان ليصل منسوب المياه إلى 121 متراً لتغرق للمرة الثالثة، عشرة قرى نوبية أخرى، بينما أضيرت بقية القرى النوبية الإحدى عشر الأخرى والممتدة من الخزان حتى الحدود المصرية السودانية.
وفىعام 1932 وأثناء التعلية الثانية لخزان أسوان، وجدت الحكومة آنذاك أن هناك ضرورة لتقنين وضعية النوبيين المتضرريين من جراء عمليات ضبط النهر. فكان القانون رقم 6 لسنة 1933 الخاص بنزع ملكية أهالى النوبة وتقدير التعويضات اللازمة لمواجهة كوارث أعوام 1902 و1912 و 1932، وذلك على الرغم من وجود قانون ينظم عملية نزع ملكية العقارات بشكل عام هو قانون رقم 27 لسنة 1906 ورقم 5 لسنة 1907. وربما أرادت الحكومة وضع قانون خاص بالنوبة حتى تتفادى التكلفة الكبيرة للتعويضات التى ستدفع للنوبيين من جراء نزع ملكياتهم، الأمر الذى يبدو بوضوح فى مبالغ التعويضات الهزيلة التى حصل عليها النوبيون آنذاك، حيث بلغ إجمالى مبلغ التعويض الذى رصدته الحكومة مليون وسبعمائة ألف جنيه خصم منها بعد ذلك نصف مليون جنيه، فى حين يشير أحد التقديرات إلى أن الحد الأدنى للتعويضات بأسعار ذلك الوقت لا يقل عن ثلاثة ملايين وستمائة ألف جنيه.
مع حركة يوليو وتفكير الضباط الأحرار فى بناء دولة قوية متحررة من الإستعمار ومكتفية ذاتياً عبر التنمية الشاملة، كان لزاماً على الدولة أن تفكر فى مزيد من ضبط النهر لتحقيق الاستفادة القصوى من المياه العذبة لاستغلالها فى زيادة رقعة الأراضي الزراعية المستصلحة على ضفتي النهر. فكانت فكرة بناء سد ضخم عند أسوان يقوم بهذه المهمة ويصبح مصدراً للطاقة الكهربائية. ورغم أن السد العالي جسد حلماً وطنياً فى المعركة ضد الاستعمار وتحقيق التنمية الشاملة فى مصر، إلا أنه مرة أخرى جاء وبالاً على أهالى النوبة. فقد تسبب السد فى أكبر عملية تهجير وتشريد لهم فى العصر الحديث، بعد أن غمرت مياه بحيرة السد قراهم ومنازلهم وأراضيهم.
ومن المثير للدهشة هنا أن الدولة أصدرت فى عام 1962 القانون رقم 67 لنفس العام والخاص بنزع ملكية أراضى النوبة التى ستغمرها مياه السد العالى، كما صدر القرار رقم 106 لسنة 1964 بشأن تعويض وتمليك وإسكان أهالى النوبة، وذلك رغم وجود قوانين سابقة تنظم عملية نزع ملكية العقارات.
السبب وراء هذا هو ما رأته الدولة آنذاك من أن القوانين المنظمة لعملية نزع الملكية سوف تعرقل انجاز عملية التهجير إذا ما اتبعت الإجراءات المنصوص عليها فى تلك القوانين. فهذه القوانين تعطي الحق للمتضررين من جراء نزع الملكية وما يرتبط بها من تعويضات اللجوء إلى القاضى الطبيعي للفصل فى القضية، فى حين جعل القانون الجديد هذا الحق فى يد لجنة إدارية مكونة من قاضي تختاره وزارة العدل ومندوبين وزارة الشئون الإجتماعية ووزارة الأشغال، وممثل لمحافظة أسوان. والدولة بتفويض هذه اللجنة للبت فى الشكاوي المترتبة على نزع الملكية تكون قد نصبت نفسها خصماً وحكماً فى نفس الوقت. بدا ذلك جلياً فى الإجراءات التى نص عليها القانون فى حالة الشكوى من نزع الملكية، والتى هى تعد فى مجملها إجراءات تعجيزية، الأمر الذى ترتب عليه إهدار الكثير من حقوق النوبيين المتضررين من عملة التهجير.
فى هذا السياق تم تقدير تعويضات النوبيين بـ 6.036.818 جنيه، بواقع 1.973.478جنيه لعدد 1.044.380نخلة حيث قدر ثمن انخة الواحدة بـ 1.89قرش، كما قدرت التعويضات على المساكن بـ 1.886.700جنيه لعدد 35.966 مسكن، أي أن ثمن المسكن الواحد قدر بـ 52.458 جنيه، وبالنسبة للأراضي الزراعية والتي بلغت في ذلك الوقت 15.957 فدان قدرت قيمة التعويضات عنها بـ 2.155.720جنيه، بواقع 135.1 جنيه، أما السواقي والآبار التي بلغ عد دها آنذاك 1.064، قدرت قيمتها بـ 20.920 جنيه. أما السواقي والآبار التي بلغ عد دها آنذاك 1.064، قدرت قيمتها بـ 20.920 جنيه. وعلى الرغم من هزال هذه التعويضات مقارنة بحجم المعاناة التى تكبدها النوبيون من جراء الترحيل، فإنها لم تنفذ بالكامل. فقد صرفت نصف التعويضات فقط وقيمتها 3,458,000 ألف جنيه. ومنذ بدء التهجير فى 18/10/1963 بقرية دابور وحتى نهايته فى بقرية أبو حنضل لم تكن جميع المساكن البديلة المخصصة للنوبيين قد اكتملت. حيث تم اسكان 15,107 ألف أسرة بواقع 15,030 ألف منزل، بينما ظل بقية الأهالى يقيمون فى مخيمات أو عند ذويهم ممن تسلموا مساكن حتى تم استكمال باقى المنازل وعددها 918 منزل. أما منازل المغتربين وعددها 8467 منزل فقد بدء إنشاءها عام 1976 أى بعد 12 عام من التهجير، أضيف إليها 636 منزل تحت مسمى تيسيرات ليصبح الإجمالى 9103. ووفقاً لتقرير لجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير عقب الزيارة الميدانية التى قامت بها في مارس 1998 فإن إجمالى ما تم بنائه من هذه المساكن 2829 منزل، ليصبح المتبقى 6274 منزل لم يستكمل حتى الآن.
كيف تعود حقوق النوبيين؟للإجابة على هذا التساؤل يجب علينا الإجابة أولاً على سؤال آخر، من اغتصب حقوق النوبيين؟ بمعنى آخر من هو عدو النوبيين الحقيقي؟ هل هو حكم الشماليين المختلفون لغوياً وثقافياً وفي اللون، والذين ينظرون لأهل النوبة نظرة دونية، كما يحاول البعض تصدير ذلك؟ أم هم أعداء الحضارة النوبية المزعومة كما يحاول آخرون تصوير القضية؟ كل هذه التصورات في رأينا لا تعدو كونها أمراض أنتجها العدو الحقيقي الذي تسبب في تهميش النوبيين. فكما رأينا فإن قضية النوبة تمتد لما يقرب من قرن من الزمان، تعاقبت خلالها نظم حكم مختلفة نال منها النوبيون نصيب وافر من التهجير والتشريد والإفقار. لكن الملاحظة الهامة هنا هي أن سياسات جميع هذه النظم كانت تعبيراً عن طموحات الطبقات الرأسمالية الحاكمة في إحداث مزيد من التنمية، ليس بهدف تلبية احتياجات البشر وتوفير الرفاهية لهم، ولكن لتحقيق مزيد من تراكم رأس المال والأرباح حتى لو كان ذلك على حساب حياة الملايين من الفقراء. فمن المستفيد الأول من تحويل ري الحياض إلى ري دائم بعد بناء خزان أسوان، ألم يكن كبار ملاك الأرض الذين استعبدوا فقراء الفلاحين في وساياهم؟ حتى بعد حركة يوليو، ورغم كل المكتسبات التي حققها الإصلاح الزراعي للفلاحين، وكل طموحات التصنيع والتنمية المستقلة، هل تحسنت أحوال النوبيين؟ هل تحسنت أوضاع فقراء الفلاحين، أم تم نزع فائض التنمية إلى خزينة الدولة وطبقة البيروقراطية العسكرية التي خلقتها حركة الجيش؟ واليوم في ظل سياسات الليبرالية الجديدة والتنمية المزعومة والتي يجري جزء منها على ضفاف النهر هناك في مناطق النوبة القديمة ببناء قرى ومنتجعات سياحية تدر ملايين الأرباح، هل عادت تلك التنمية بشئ على فقراء مصر ومنهم النوبيين، أم أن الأرباح تتراكم بالمليارت في حسابات الرأسماليين الكبار؟
إذاً فالمشترك الأساسي بين كافة الأنظمة التي عانى النوبيون تحت حكمهما أنها جميعاً أنظمة طبقية تعمل لصالح رأس المال وتخلق التنمية التي توفر لهم مزيداً من الأرباح، وليس تلك التنمية التي توفر احتياجات البشر ورفاهيتهم ذلك النمط من التنمية الذي لتي يمكن للنوبيين وغيرهم رؤيته بوضوح. والحقيقة التنمية الرأسمالية لم ينعكس بالإفقار والقهر والاضطهاد على النوبيين فقط وإنما علي كافة الفقراء من مختلف فئات المجتمع وطبقاته. فهذه السياسات الرأسمالية هي التي شردت آلاف العمال بالخصخصة والمعاش المبكر وأفقرت آلاف آخرين بوضعهم تحت رحمة الاستثمار في ظروف عمل أشبه بالعبودية. هذه السياسات أيضا هي التي شردت آلاف الفلاحين وطردتهم من أراضيهم بقانون 92 لسنة 1992، وقتلت منهم العشرات في معارك مع الأمن لتسليم الأرض للإقطاعيين الجدد. هذا النظام هو أيضاً من شرد العشرات من أهالي قلعة الكبش بحي السيدة زينب بهدم عششهم فوق رؤوسهم. هذا النظام وهذه السياسات هي نفسها التي تتجاهل صرخات أهل النوبة المطالبة بحقوقهم في حياة إنسانية كريمة تنتشلهم من مستنقع الفقر والبطالة وانعدام الخدمات والتمييز.
هذا هو العدو الحقيقي للنوبيين وكل الفقراء والمضطهدين في مصر، إنها الطبقة الحاكمة وسياساتها. لذلك وحتى لا ينحرف نضال النوبيين في المطالبة بحقوقهم إلي متاهات العنصرية والعرقية، فإن نضالهم الحقيقي هو نضال كل الفقراء والمهمشين لإسقاط هذا النظام وسياساته وخلق نظام جديد يسعى لتنمية في البشر وليس لصالح الأرباح.
وإعادة فتح ملف التعويضات الهزيلة للنوبيين قبل الهجرة بحيث لا تتناسب مع حجم التضحيات التى قدموها من اجل مصر التي تم صرفها للنوبيين قبل الهجرة في ظل القانون رقم 62 لسنه 1967 لعدم تناسبها مع فداحة
الأضرار الجسيمة المادية والادبيه التي لحقت بأهالي النوبة عند التهجير في عام 1963فى أملاكهم من( مساكن – أراضى زراعية – أشجار
ونخيل والسواقى ) ولأنها حق أصيل وحتى نتمكن من المطالبة بإعادة حصر منازل وأراضى أهالي النوبة مرة أخرى فى ظل القانون رقم 10 لسنة 1990 بشأن نزع ملكية العقارات والذى ألغى كافة القوانين المنتظمة لأعمال نزع
عند بداية عملية التهجير قدرت الحكومة قيمة التعويضات التي تصرف للنوبيين كالآتي :
اطيان زراعية 15.957 فدان التقدير (الثمن ) 2.155.720 جنيه مصري
النخيـــل 1.044.380 نخلة التقدير (الثمن ) 1.973.4780 جنيه مصري
السواقي 1.064 ساقية التقدير (الثمن ) 20.920جنيه مصري
المباني 35.966 منزل التقدير (الثمن ) 1.886.700جنيه مصري
هذه المبالغ الهزيلة تم تقديرها على أسعار عامي 1902و1912 وتم صرف نصف قيمتها عامي 63 و1964 دون أي مراعاة لفروق الأسعار والتضخم الذي صار مع مرور السنين، فهل يعقل أن تقدر ثمن النخلة بخمسين قرشا وأحيانا بعشرة قروش، وفدان الأرض بأربعين جنيها وأحيانا بعشرين جنيها، أما الغرفة المسقوفة في المسكن فقدرت بخمسة جنيهات فقط. هكذا أمر من بيده السلطة والتسلط وهي قرارت إذعان على مواطنين في حالة ضعف وضياع، وكما يقول الأستاذ إبراهيم عبد الرسول (مرجع رقم 1 ص97) النخلة في رشيد بثلاثة وأربعين جنيها وفي النوبة المصرية تساوي خمسون قرشا وفي النوبة السودانية فبخمسة عشر جنيها، علما بأن نوعيات البلح الإبريمي في مصر هو نفس البلح الإبريمي هناك. يذكر ماهر ذكي في كتابه (مرجع رقم ص130) إجمالي الميزانية التي تم صرفها في عملية التهجير في البنود الآتية:
بناء مساكن النوبة الجديدة 18450000 جنية
التعويضات للأهالي 200000 جنية
تكاليف حصر الممتلكات 462000 جنية
المساعدات والإغاثة 820000 جنية
النقل المائي 300000 جنية
النقل البرى 84000 جنية
المصروفات الإدارية 250000 جنية
تكاليف إصلاح 15 ألف فدان بكوم أمبو 4366000 جنية
الإجمالي العام 24932000 جنية
في مطلع القرن العشرين كانت بلاد النوبة تتكون من 39 قرية على امتداد 350 كيلومترا جنوب أسوان حتى خط عرض 22 (وادي حلفا) على ضفتي النيل شرقا وغربا .
وتتكون القرى النوبية من مجموعات متباعدة من المساكن تفتح أبوابها على نهر النيل، وامتدت تلك المساكن في نجوع بلغ مجموعها 535 نجعا (مرجع 4 ص 42) .
وتميزت مساكن النوبة عن غيرها من المساكن بالمناطق الأخرى في عدة وجوه أهمها ارتباطها باختيار أماكن البناء على مستويات الأرض ذات الطبيعة الصخرية، إذ تتدرج الأراضي في الانخفاض من الشرق والغرب نحو النيل، فكان من الطبيعي أن تجد غرف البيت الواحد على اتساع المساحة المقامة عليها تتفاوت في ارتفاعاتها ليسمح بوجود تيارات هوائية، ويبلغ ارتفاع الجدار حتى أربعة أمتار، ونظرا لطبيعة المناخ الجافة الحارة فإن العمارة النوبية تواءمت مع البيئة وتميز هذا التشييد بوحدة أساسية هي الحوش السماوي الذي تفتح عليه حجرات البيت.
إنشاء خزان أسوان (1902م) :
عند انتهاء بناء خزان أسوان عام 1902 ارتفع منسوب المياه خلف الخزان إلى 106 أمتار ليغرق مساكن وأراضي زراعية وسواقي ومزروعات ونخيل وأشجار عشر قرى نوبية هي : دابود ودهميت وأمبركاب وكلابشة وابوهور ومرواو وقرشة وكشتمنة شرق وغرب وجرف حسين والدكة ، (مرجع 4 ص 23) . واجهت تلك القرى العشر آثار بناء الخزان وحدها دون أن تنال اهتماما رسميا أو إعلاميا في ذلك الوقت .
التعلية الأولى للخزان (1912م) :
لم تلتئم بعد جروح أبناء النوبة من أثر بناء الخزان، فإذا بكارثة التعلية الأولى للخزان تتسبب بطوفان جديد عام 1912، ليرتفع منسوب مياه الخزان إلى 114 مترا ويتسبب في إغراق ثماني قرى نوبية أخرى هي قورتة والعلاقي والسيالة والمحرقة والمضيق والسبوع ووادي العرب وشاترومة. ومرة أخرى استخفّت الدولة بآلام النوبيين وكارثتيهم، ولم ينصف أحد هؤلاء النوبيين المنكوبين وكأنهم خارج نطاق المواطنة، كما لم تتناول وسائل الإعلام كارثتهم وما حل بهم، حتى السياسيون والأحزاب المختلفة في ذلك الوقت لم يلتفتوا إلى تلك الكوارث التي تحل بالنوبيين جنوب مصر .
التعلية الثانية عام 1932م:
النوبيون الذين فقدوا كل ما يملكون من حطام الدنيا وأصبحوا منكوبين قولا وفعلا، فاجأتهم التعلية الثانية للخزان عام 1932 فأغرقت مياهها هي الأخرى عشر قرى نوبية هي المالكي وكروسكو والريقة وأبوحنضل والديوان والدر وتوماس وعافية وقتة وأبريم وجزيرة أبريم، بينما أضيرت بقية القرى النوبية الإحدى عشرة الأخرى وهي عنيبة ومصمص والجنينة والشباك وتوشكى شرق وغرب. حينئذ ارتفع أنين النوبيين بالشكاوي. وبعد أكثر من ثمانية عشر عاما من بناء الخزان...
بنود مجحفة ونخطي إجراءات قانون نزع الملكية
أصدرت الدولة القانون رقم 6 لسنة 1933 الخاص بنزع ملكية أهالي النوبة وتقدير التعويضات اللازمة لمواجهة كوارث أعوام 1902 و 1912 و 1932، إلا أن القانون حفل ببنود مجحفة في حق النوبيين، منها ما تم رصده في مذكرة النادي العربي العقيلي عن تعويضات منكوبي خزان أسوان والتي أرسلت إلى مجلس الشيوخ بتاريخ 16 صفر 1363هـ 12 فبراير 1944 ميلادية
وقبل أن نبين لحضراتكم الأساس الذي قام عليه تقدير التعويضات، نرى أنه لابد من ذكر القانون رقم 6 لسنة 1933 الذي لجأت إلى إصداره حكومة ذلك العهد متخطية الإجراءات العادية التي ينظمها قانون نزع الملكية العام، وذلك لحاجة في نفس أعضائها. وقد أبان عنها معالي شفيق باشا وزير أشغال ذلك العهد عند عرض ذلك القانون على مجلس الشيوخ بجلسة 29 فبراير سنة 1933 إذ قال معاليه "أنفقت مصر الملايين على إنشاء خزان أسوان وتعليته وكل حضراتكم متشوق إلى زيادة المياه وآمالنا الآن الطريقة لتخزينها فلو أننا انتظرنا خمس سنوات حتى تتم إجراءات نزع الملكية بالطريق العادي لحرمنا إذن مصر من المياه حرمانا مادياً بدون مبرر.
فاتباعنا القانون العادي في إجراءات نزع الملكية هو حرمان مصر من المياه طول هذا الزمن.. وإذا مكننا القانون المذكور من وضع اليد في الحال على الأطيان فانه لا يمكن لا للقضاء ولا للخبراء ولا أصحاب الشأن من معرفة معالم الأرض بعد غمرها في نوفمبر المقبل".
فرد عليه شيخ أغضبه تبرير الوزير لهذا القانون قائلاً "أين كنت مدة الثلاث السنوات الماضية حينما تقررت التعلية؟ لم لم يعمل هذا من قبل وهل تنطبق السماء على الأرض لو أجلنا إملاء الخزان للمنسوب الجديد سنة أخرى وقد مضى علينا ثلاثون سنة على هذه الحال؟"
التعسف في تطبيق القانون
والقانون المذكور قضي بنزع ملكية المناطق المنكوبة "النوبية" بأجمعها ولم يترك للمنكوبين فرصة للمعارضة في تقدير التعويضات إى فرضتها الحكومة تعسفاً إلا مدة 15 يوماً وهي مدة قصيرة لم يتمكن إلا الكثيرون خلالها من الاطلاع على مقدار تعويضاتهم هذا فضلاً عن جهل أغلبية الأهالي بطرق المعارضة في التقدير حتى أن الكثيرين منهم لم يعلموا بذلك الطريق القانوني للمعارضة إلا بعد فوات ميعادها (مرجع 5 ص 27).
توازى سلسلة المظالم على النوبيين مع تعويضات هزيلة لا تغني ولا تسمن من جوع. ولنبين فضيحة تلك التعويضات نقرأ ما كتبه الأستاذ محمد مراد سنة 1947 ميلادية ( ألقى المغفور له الأستاذ عبد الصادق عبد الحميد بياناً في مجلس النواب أثناء نظر ميزانية وزارة الأشغال سنة 1936 دلل فيه على أن التعويض مع كثير من التساهل والتجاوز كان يجب أن يقدر بمبلغ 3600000 ثلاثة ملايين وستمائة ألف جنيه، على حين أن الحكومة قدرتها بمليون وسبعمائة ألف ثم خصمت منها حوالي نصف مليون بأساليب جهنمية ولا يزال من هذا المبلغ بقية في ذمة الحكومة إلى اليوم وذلك بفعل موظفيها الذين يريدون التنزه كل عام في بلاد النوبة وجوها البديع في الشتاء مع التمتع ببدلات السفريات). (مرجع 5 ص 25).
ولنبين كيف يستهين الموظفون بالنوبيين ولا يعتبرونهم مواطنين مثلهم، نستمر في نقل ما كتبه الأستاذ محمد مراد، فحين قرر وزير الأشغال عام 1944 توزيع 406 فدان على بعض المنكوبين النوبيين في ناحية القرنة البعيرات اعترض الموظفون وكتبوا مذكرة قائلين فيها (أن هذه الأطيان أجود من أطيان بلاد النوبة وأن التعويض يجب أن يكون مماثلاً)
(مرجع 5 ص 23).
هذا هو أسلوب موظفي الحكومة كباراً وصغاراً تجاه النوبيين الذين ضحي بهم في سبيل عموم مصر، لم يقدر مسئول منهم أن هؤلاء البشر أخرجوا من ديارهم وأوطانهم وأنهم في حالة بائسة.
هذه المظالم تم تجاهلها من قبل أصوات كانت تنادي آنذاك بالاستقلال والحرية والمساواة لمصر، مما زاد من المرارة والشعور بالهوان لدى النوبيين. مع التجاهل التام من قبلالمطالب النوبية في البرلمان
وإزاء تلك المحنة، انتقل النوبيون إلى سفوح الجبال ليبنوا مساكن لهم على طول نهر النيل، فاستنزفت تلك المساكن الجديدة أكثر مما أخذوه من تعويضات سخيفة مقابل أراضيهم ومساكنهم الأصلية التي غرقت. وفي عهد حكومة مصطفي النحاس عام 1936
كان أول مطلب للنوبيين حمله نائب النوبة في البرلمان: عبد الصادق عبد المجيد بعد الانتخابات، هي أعاده النظر في التعويضات التي صرفت للأهالي ومنح أبناء النوبة أراضى صالحة للزراعة شمال أسوان وجنوب قنا بدلا من الأراضي التي أغرقها مياه الخزان؛ والجدير بالذكر أن مصطفي النحاس قال عند إلقائه خطاب العرش في تلك الدورة البرلمانية (وستعمل حكومتي على إقامة مشروعات للري في بلاد النوبة تعويضا عما فقدوه وتقديم كافة الخدمات لأهلها).
ونتيجة لشعور النوبيين بتشعب مشكلتهم وأهمية منطقتهم وحيويتها لأمن وادي النيل الإستراتيجي وخاصة لمصر وضرورة أستقرارها؛ تقدم النائبان النوبيان في البرلمان عام 1947:سليمان عجيب وشاهين حمزة باقتراح مشروع ربط سكة حديد مصر والسودان بتكلفة 4 مليون جنية، ولم تأخذ الحكومة هذا الاقتراح بمحمل الجّد؛ وهكذا تم فصل السودان عن مصر كما هو معروف فيما بعد.
تغيرت البيئة النوبية نتيجة لزيادات منسوب النهر المتتالية فتحولت إلى بيئة تنتشر فيها الأمراض والأوبئة مثل التيفود والدفتريا والحمى والملاريا والبلهارسيا، وهلك الكثير من النوبيين نتيجة سوء التغذية وانعدام الخدمة الصحية، (مرجع 1 ص 27).
ظلم البيروقراطية عام 1960:
ومرة رابعة، بدأت بشائر طوفان جديد، ففي بداية عام 1953 بدأت الدولة تجري دراسات حول مشروع السد العالي من كل جوانبه الهندسية والاجتماعية والاقتصادية، وفي إطار تلك الدراسات أجرت وزارة الشئون الاجتماعية مسوحات سكانية واجتماعية للنوبيين عام 1960 يتضح منها الآتي:
• إجمالي تعداد النوبيين 98609 نسمة (ثمانية وتسعون ألفاً وستمائة وتسعة)
• المقيمون منهم 48028 نسمة (ثمانية وأربعون ألفاً وثمانية وعشرين)
• والمغتربون سعيا وراء توفير لقمة العيش 50581 نسمة (خمسون ألفاً وخمسمائة واحد وثمانين)
• أما عدد الأسر المقيمة بالنوبة فبلغت 16861 نسمة (ستة عشر ألفاً وثمانمائة واحد وستون)
• الأسر المغتربة 8467 نسمة (ثمانية آلاف وأربعمائة سبعة وستون) (مرجع 4 ص 21).
دراسة مستقبل المنطقة
ثم تشكلت بعد ذلك لجان لمواجهة الآثار الجانبية لمشروع السد العالي، ودراسة مستقبل المنطقة بقراها التسع والثلاثين وسكانها المائة ألف وما يملكون من أراضي زراعية ومساكن ومواشي وحياة استمدت كينونتها مقبل التاريخ بآلاف السنين. بلاد مترعة بالتراث النوبي الحافل بالعديد من الحضارات التي عاشتها المنطقة منذ العصر الحجري وحتى الآن كما بينا سابقا .
وباستقراء الإحصاءات السابقة يتضح أن نسبة الأسر النوبية التي تعيش بعيدا عن موطنها نتيجة لإفقار المنطقة من أثر بناء الخزان وتعليتيه بلغت 5ر33% هاجرت بالكامل وأن 5ر28% من الأسر هاجر بعض أفرادها. كما تبرز إحصائية وزارة الشئون الاجتماعية أن نسبة السكان النوبيين من ذوي المهن بلغت 23% من إجمالي تعداد النوبة، في حين نجد أن نسبة 7ر26% من ذوي المهن في مصر عموما في ذلك الوقت،
توزيع نسب النوبيين
وتتوزع نسبة النوبيين من ذكور وإناث على المهن على الوجه الآتي :
9,8 خدمات 5 صناع 4,6 نقل - محاجر 71 زراعة 3,3 إدارية وكتابية 3,1 تجارة 3,2 مهن علمية ذكور %
2,1 خدمات 1,4 صناع - نقل - محاجر 96 زراعة - إدارية وكتابية - تجارة - مهن علمية إناث %
7 خدمات 3,6 صناع 2,9 نقل - محاجر 80,3 زراعة 2,1 إدارية وكتابية 2 تجارة 2 مهن علمية تعداد مصر
ويتضح من الجدول السابق أن نسبة المشتغلين بالزراعة من النوبيين أعلى من النسب على مستوى الجمهورية. والغريب أن نسبة المهاجرين النوبيين من قراهم المشتغلين بالزراعة لم تزد عن 1% من إجمالي النوبيين العاملين بالزراعة. (مرجع 4 ص55). هذه الملاحظة تدحض الكثير من المزاعم التي روجها المغرضون في السابق والحاضر من أن النوبيين لم يشتغلوا بالزراعة. فهذه الإحصاءات بينت أن النوبيين فلاحون أصلاً، وأن ضياع مهنة الفلاحة منهم سببها غرق أراضيهم وفشل المسئولين في إدارة عملية التهجير وعدم تفكيرهم في إعداد النوبيين لبيئتهم الجديدة.
وليداري الموظفون فشلهم، اخترعوا الأكذوبة التي روجوها بأن النوبيين غير مزارعين وفاشلين في فلاحة أراضيهم التي تسلموها في التهجير. والفاشلون هم، والكاذبون هم.
صدمة التهجير 63/1964:
واصلت الدولة تنفيذ مشروع السد العالي، وبدأت الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة، أما النوبيون كبشر ومواطنين وهم الذين تعايشوا مع هذه الآثار فجاء حظهم العاثر في ذيل اهتمامات الدولة والمجتمع الدولي، فتم ترحيلهم على عجل إلى هضبة كوم أمبو وإسنا، إلى منطقة لا نهر فيها ولا إرث ولا تراث. بقي معهم ما حمل وجدانهم من عشق لوطن فقدوه تحت مياه السد العالي. تم ترحيل النوبيين دون ما أية دراسات تأخذ في الاعتبار آدميتهم وتاريخهم ونضالهم وتضحياتهم في سبيل الوطن.
هكذا تم ترحيلهم عشوائياً وفقا لجدول زمني مختزل سريع، رغبة في إخلاء بلاد النوبة قبل 15 مايو 1964 موعد تحويل مجرى نهر النيل، فترك معظم النوبيون الكثير من متاعهم في الوطن المهجور وحشروا في صحراء كوم أمبو وإسنا في مساكن خالفت المساكن التي ألفوها وخلافا للمسكن النموذجي الذي وعدوا به وشاهدون قبل عملية التهجير. بالإضافة لعدم تواجد مياه صالحة للشرب ولا كهرباء، مع استحالة تربية مواشي وطيور وهي تمثل أهم عناصر الحياة والدخل بالنسبة للمواطن النوبي المزارع؛ وبالتالي تعذر نقل هذه الحيوانات معهم إلى المهجر الجديد؛ في حين ان إخوانهم النوبيون السودانيون وأبناء عمومتهم فعلا لا قولا أثناء هجرتهم إلى خشم القربة(مهجرهم الجديد) خصصت الحكومة السودانية لكل قطار مصاحب لأفواج المهاجرين طبيبا بيطريا لرعاية حيواناتهم الزراعية.
المشاكل والابتلاءات المصاحبة للتهجير
تكررت مأساة أشد هولا مما حدث من ربع قرن مع بلاءات خزان أسوان، فلا المساكن الجديدة استكملت ولا الأراضي الزراعية استكمل استصلاحها ولم تسلم للنوبيين إلا بعد مرور من أربع لخمسة سنوات، وأصيب الأطفال بنزلات معوية وفقد الكثير منهم حياتهم، والشيوخ أصيبوا بالاكتئاب نتيجة اختلاف المناخ وصعوبة ملاءمة المنطقة لأسلوب ونمط معيشة النوبي فمات منهم الكثير
عذر أقبح من الذنب
كانت حجة الحكومة بموظفيها والتي حاولت لجنة تقصي الحقائق المنبثقة من مجلس الأمة في مضبطة 5 يناير 1970 ملحق 6، أن ضخامة المشروع السبب في كل العيوب مع عامل الزمن وضيق الوقت. نفس الحجة التي هي أقبح من ذنب، والتي ادعاها وزير الأشغال مجلس الشيوخ بجلسة 29 فبراير سنة 1933، أي قبلهم من سبعة وثلاثين عاماً كاملة. ومازالت التبريرات غير المقبولة مستمرة ومازالت الاستهانة بالنوبيين قائمة.
يقول إبراهيم عبد الرسول (مرجع رقم 1 ص 39) (الشئون الاجتماعية تصرف مبلغ ثلاثة جنيهات كمعاش شهري للأسرة النوبية المهجرة، هذا المبلغ لا يكفي لتغذية ما لدى الأسرة من ماعز وأغنام، حيث وصل سعر ربطة البرسيم في ذلك الوقت عشرة قروش).
الشروط المبرمة مع الدولة
ارتضى النوبيون بالهجرة إلى كوم أمبو وإسنا وفقا لشروط أبرموها مع الدولة تتلخص في أرض زراعية بالنوبة مقابل أرض زراعية بالمهجر ومسكن في النوبة مقابل مسكن بالمهجر، طبقاً لما شاهدوه وعاينوه قبل الهجرة في أسوان كمسكن نموذجي. وبناء على تلك القاعدة القانونية قرأ النوبيون كافة القرارات والقوانين التي صاحبت عملية التهجير، وعلى الأخص قرار رئيس الجمهورية بمرسوم القانون رقم 67 لسنة 1962 في شأن نزع ملكية الأراضي التي تغمرها مياه السد العالي، وكذلك القرار الوزاري الذي أصدرته الشئون الاجتماعية برقم 106 بتاريخ 24/9/1962 بشأن قواعد تعويض وتمليك إسكان أهالي النوبة. لكن التنفيذ جاء مخيبا لآمال النوبيين الذين ظنوا أن الدولة ستعاملهم معاملة صغار المزارعين أو شباب الخريجين أو حتى المعدمين الذين تم تعويضهم في مديرية التحرير والنوبارية، وهؤلاء لم يكونوا يملكون إرثاً ولا وطناً ضحوا به مثلما ضحى النوبيين.
لم يتسلم النوبيون مسكناً وخمسة أفدنه وحيوان زراعي لبدء حياة جديدة وكريمة، أسوة بالمعدمين الذين لم يضحوا ولم يعانوا مثلما عانى النوببيون.
جسامة الغبن الذي وقع على النوبيين
ولكي ندرك حجم الإجحاف والظلم الذي وقع على النوبيين المصريين، دعونا نلقي نظرة سريعة مقارنة لما حدث للنوبيين السودانيين الذين هُجروا من قرى وادي حلفا إلى منطقة التهجير الجديدة (خشم القربة) حتى نتبين جسامة الغبن الذي وقع على النوبيين المصريين. ترى ماذا فعلت الحكومة السودانية لتهجير النوبيين هناك؟ في خشم القربة المسكن مساحته 350 متر مربع إضافة إلى حديقة صغيرة أمام المسكن وحظيرة للبهائم. لكن في كوم أمبو وإسنا (مصر) أكبر مسكن مساحته 150 متر مربع بلا حديقة ولا توجد حظيرة للبهائم . والنوبي السوداني يحصل على مسكن بصرف النظر عن كونه مقيما أو غير مقيم. بالنسبة للنوبي المصري المسكن للمقيم فقط أما المغترب –أطلقت الحكومة هذا المسمى لغير المتواجد في قريته النوبية أثناء الحصر، بسبب بحثه عن الزرق بعد أن أغرقت الحكومة أرضه- فلم تبن لهم مساكن حتى يومنا هذا، أي بعد مرور أكثر من أربعين عاما على الهجرة، لم تنفذ الحكومة ما وعدت به النوبي المصري المغترب كما أطلقت عليه. وبالنسبة للأراضي الزراعية فقد كانت الحكومة السودانية رحيمة بالنوبيين حيث لم تكتف بقاعدة الفدان مقابل الفدان، بل أضافت لكل صاحب مسكن سواء كان مالكا لأرض زراعية أو معدما مساحة 15 فداناً (حواشة) وضعف المساحة للنوبي الذي يملك أرضا زراعية، أما في مصر فقد وزعت الحكومة على المقيمين ما سمي بفدان الإعاشة والذي مساحته الحقيقية من 14 – 18 قيراط للأسرة الواحدة. فما أشد الظلم والهوان المستمرين على النوبيين المصريين.
قانون مخالف للقواعد الدستورية
النوبيون المصريون يعتبرون أن القانون 67 لعام 1962 مخالف للقواعد الدستورية المعمول بها حيث أغفلت حق الاعتراض على التعويضات وهذا حق لكل مواطن طبقاً لقوانين الدولة. واشترط القانون المذكور أن يقدم الطاعن اعتراضه للجنة مشكلة من عضو مجلس الدولة بالإضافة إلى أحد موظفي المساحة، وهي نفسها الجهة التي قدرت القيمة النقدية للتعويض. أما القرار الوزاري رقم 106 لسنة 1962 والذي خصص المساكن في النوبة الجديدة للأسرة التي تتكون من زوجين ووالدين والأبناء والأحفاد في مسكن واحد (مادة 12)، وهذا يتنافى مع مفهوم الأسرة في المجتمع المصري حيث يعتبر أن الأسرة تتكون من زوجين وأطفال فقط. وينتظر النوبيون المصريون في إعادة المفهوم القانوني الأساسي لكل من القانون والقرار السابقين حتى لا يورثوا مرارتهم وضغينتهم للأجيال النوبية الشابة، ولاسيما وأن هذه الأجيال ليس لديها القدرة على الصبر والتروي في المطالبة بحق تجاهلته الدولة منذ أربعين سنة .
إطلالة على تعويضات النوبيين
عند بداية عملية التهجير قدرت الحكومة قيمة التعويضات التي تصرف للنوبيين كالآتي :
اطيان زراعية 15.957 فدان التقدير (الثمن ) 2.155.720 جنيه مصري
النخيـــل 1.044.380 نخلة التقدير (الثمن ) 1.973.4780 جنيه مصري
السواقي 1.064 ساقية التقدير (الثمن ) 20.920جنيه مصري
المباني 35.966 منزل التقدير (الثمن ) 1.886.700جنيه مصري
هذه المبالغ الهزيلة تم تقديرها على أسعار عامي 1902و1912 وتم صرف نصف قيمتها عامي 63 و1964 دون أي مراعاة لفروق الأسعار والتضخم الذي صار مع مرور السنين، فهل يعقل أن تقدر ثمن النخلة بخمسين قرشا وأحيانا بعشرة قروش، وفدان الأرض بأربعين جنيها وأحيانا بعشرين جنيها، أما الغرفة المسقوفة في المسكن فقدرت بخمسة جنيهات فقط. هكذا أمر من بيده السلطة والتسلط وهي قرارت إذعان على مواطنين في حالة ضعف وضياع، وكما يقول الأستاذ إبراهيم عبد الرسول (مرجع رقم 1 ص97) النخلة في رشيد بثلاثة وأربعين جنيها وفي النوبة المصرية تساوي خمسون قرشا وفي النوبة السودانية فبخمسة عشر جنيها، علما بأن نوعيات البلح الإبريمي في مصر هو نفس البلح الإبريمي هناك. يذكر ماهر ذكي في كتابه (مرجع رقم ص130) إجمالي الميزانية التي تم صرفها في عملية التهجير في البنود الآتية:
بناء مساكن النوبة الجديدة 18450000 جنية
التعويضات للأهالي 200000 جنية
تكاليف حصر الممتلكات 462000 جنية
المساعدات والإغاثة 820000 جنية
النقل المائي 300000 جنية
النقل البرى 84000 جنية
المصروفات الإدارية 250000 جنية
تكاليف إصلاح 15 ألف فدان بكوم أمبو 4366000 جنية
الإجمالي العام 24932000 جنية
قيمة التعويضات اقل المصروفات الإدارية
وهذه الأرقام توضح بجلاء مدى الغبن الواقع على النوبيين؛ فقيمة تعويضاتهم النقدية أقل من المصروفات الإدارية التي لزم أنفاقها على إجلائهم إلى كوم أمبو واسنا!! بل نزيد ونقول أن جريدة الأهرام نشرت في عددها الصادر يوم 13 مارس 1963 ما يفيد أن التهجير ينحصر في المدة من الخامس من أكتوبر إلى السابع من مايو 1964 مع تصريحات جديدة مفادها أن تعويض أهالي النوبة عن غرق بلادهم تحت بحيرة السد العالي تبلغ 6ر5 مليون جنية ستصرف لعدد 16861 أسرة من الأهالي، وتوضح الجريدة بنود الصرف على النحو التالي: 25 ألف مسكن يقدر ثمنها بمبلغ 1ر9 مليون جنية؛ و15 ألف فدان من الأراضي الزراعية ثمنها 2ر2 مليون جنية؛ و1000 ساقية وبئر مياه شرب ثمنها 20 ألف جنية؛ ومليون نخلة ثمنها 2 مليون جنية. هذا ما كتبته الأهرام. وطبقا لهذه الوعود المجحفة فالمسكن ثمنه 75 جنية؛ والفدان ثمنه 110 جنية؛ والساقية والبئر 20 جنيها؛ والنخلة ثمنها 2 جنية. فأين العدل في تلك القيمة الظالمة؟ وهل تعاملت الحكومات المصرية على تعاقبها، هل تعاملت مع النوبيين على أنهم فعلاً مواطنين مصريين؟
وبناء على ما سبق فالواجب على الدولة أن تعيد فتح ملف قضية التعويضات الظالمة التي صرفت للنوبيين نتيجة الإجلاء الذي تعرضوا لها عامي 63 و1964. واجب على الدولة وحق لنا معشر النوبيين ولن نتنازل عنه.
مشكلة الإسكان والسكان :
يتميز السكن في الموطن النوبي الأصلي بالحفاظ على العادات والتقاليد الاجتماعية التي يعتز بها النوبيون ومن أهمها التكافل الاجتماعي. والعمارة النوبية التي لخص فلسفتها شيخ المعماريين المهندس حسن فتحي بأنها "نظام حياة وليست إيواء" فالبيوت تطل على النهر العظيم، وفناؤها مكشوف إلى السماء ومزودة بحظيرة مستقلة للمواشي والطيور، والمسكن مقام على مساحة 350 – 500 متر مربع من خامات البيئة .
أما في المهجر فقد بنيت المساكن متلاصقة ضيقة وحشر فيها النوبييون، كما تخلل قراهم أسر غير نوبية مما ألغى الخصوصية النوبية وأسلوب التكامل الاجتماعي والأمني الذي توارثوه جيلا بعد جيل في النوبة الأصلية، بالإضافة إلى عدم استكمال المرافق اللازمة وعدم معالجة التربة غير الصالحة التي بنيت عليها هذه المساكن مما جعلها عرضة للانهيارات المتتالية، الأمر الذي تحمل معه النوبيون نفقات باهظة تزيد كثيراً عما تلقوه من تعويضات سابقة، لجعل تلك المساكن صالحة للسكن الآدمي ، (مرجع 4 ص 16). وهذا نفس ما حدث عند بناء الخزان عام 1902 ثم تعليته عام 1912 وتعليته الثانية عام 1932، ففي كل مرة يضطر النوبيون أن يبنوا بيوتهم أو يرمموها ينفقون أموالاً أكثر مما أخذوه كتعويض من الحكومات المتعاقبة.
ولتبيان حجم السكان في منطقة النوبة الأصلية قبل التهجير وبعده، نستعرض إحصائيات التعداد السكاني في المائة عام الأخيرة كي تتضح حجم المشكلة السكانية والإسكانية التي تعاني منها النوبة في الوقت الحالي
في سنة 1882كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 45708
في سنة 1907كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 618398 بزيادة 3.5%
في سنة 1927كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 58028 بنقصان بلغ( - 0.6% )
في سنة 1947كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 45169 بنقصان بلغ( - 2.2% )
في سنة 1960كان تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 44108 بنقصان بلغ( - 2.3% )
في سنة 1980 (قدر) تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 154033 بنقصان بلغ( - 11.3% )
في سنة 2000 (قدر) تعداد النوبيين المقيمين بالمهجر 143938 بنقصان بلغ( - 5.3% )
الارقام تقديرية في عام 1980/2000
تدهور مصاحب لتعليات الخزان
الملاحظة أن حجم السكان في بلاد النوبة تدهور في سنوات التعليات المتكررة لخزان أسوان إلى درجة انعدام الزيادة السكانية بل ونقصها في سنوات المحنة. وعند إجراء حصر لعدد المساكن في المنطقة عام 1962 قبل التهجير بلغ عددها طبقاً لتقديرات الحكومة حوالي 24 ألف مسكن، وقررت الحكومة حينذاك أن تبني في المرحلة الأولى 15.589 مسكناً بواقع 65% من العدد المطلوب و تم تأجيل بناء 8411 مسكناً في مرحلة تالية أطلق عليه إسكان المغتربين، وهي تسمية باكية مضحكة كما كان يراها أ/عبد الرحيم إدريس عضو مجلس الأمة في ذلك الوقت، هل أبجديات العمل الاجتماعي أن يسمى من ولد بمحافظة المنوفية و تمتلك أسرته مسكناً بالمنوفية ثم أنتقل إلى القاهرة للعمل أو خلافه، أن يسمى مغترب عن المنوفية !!!
بدأت محافظة أسوان فى تلقى طلبات مواطنيها من النوبيين المغتربيين من ضمن المستحقين لعدد 5221 مسكنا كتعويضات لأبناء النوبة بتكاليف إجمالية تبلغ 200 مليون جنيه
شهدت مصر خلال الأعوام القليلة الماضية حالة من الحراك السياسي والاجتماعي على خلفية سنوات طويلة من القهر والاستبداد عاشتها الجماهير المصرية تحت حكم مبارك. هذه الحالة تجسدت في ارتفاع أصوات كل المضهدين والمقهورين برفض سياسات الاستغلال والاستبداد، ولم تقتصر أصوات التغيير علي المطالبين بالديمقراطية وسقوط الديكتاتورية فقط، بل سمعنا أصوات كافة الفئات والشرائح والطبقات تعلن رفضها الخضوع لهذه السياسات. فسمعنا صرخات العمال المدوية التي أطلقوها في إضراباتهم واحتجاجاتهم المختلفة، وسمعنا أصوات المهندسين والمعلمين والأطباء برفضهم سياسات الإفقار، وسمعنا أصوات الأقباط يطالبون بوقف سياسات التمييز، وسمعنا أيضاً صوت قادم من الجنوب عانى طويلاً من الفقر والتهميش والتمييز، إنه صوت أهالي النوبة.
وعلى الرغم من أن قضية النوبة قديمة قدم الدولة المصرية الحديثة، إلا أن صوتها -كغيرها من أصوات المضطهدين- كان مدفوناً تحت سياط قهر واستبداد النظم المختلفة وآخرها نظام مبارك. وكغيرهم من المضطهدين أيضاً شاهدوا نور الشمس يتسلل من جدار الديكتاتورية المتصدع فارتفعت أصواتهم للمطالبة بحقوقهم المسلوبة عبر عشرات السنين.
لقد ارتبطت حياة أهالي النوبة عبر التاريخ بالعيش على ضفاف نهر النيل جنوب مصر وشمال السودان، وهناك تبلور نمط حياة كامل لجماعة بشرية مميزة ثقافياً ولغوياً واجتماعياً نتيجة الظروف الموضوعية التي فرضتها الحياة علي ضفتى النهر في هذه المنطقة.
وبقدر ما ساهم الموقع الجغرافي للنوبيين في تطوير هذا النمط من الحياة، بقدر ما كان وبالاً عليهم نتيجة رغبة الرأسمالية المصرية ودولتها في إحداث التنمية بما يعنيه ذلك من ضرورة ضبط نهر النيل المورد الرئيسي للمياه في مصر، الأمر الذي تطلب بناء السدود في الجنوب لاستغلال أكبر قدر من المياه التي كان يضيع معظمها في البحر وقت الفيضان. وكان خزان أسوان أول هذه المشروعات الكبرى للتحكم في مياه النهر، وتم تعلية الخزان عدة مرات، حتي جاء المشروع الأكبر وهو السد العالي. ومع كل مشروع كان النوبيون يدفعون الثمن غالياً، من تشريد وتهجير وتدمير لحياتهم، لأن المياه التي كان يحتجزها الخزان والتي تزداد مع كل تعلية ثم المياه التي احتجزتها بحيرة ناصر أمام السد العالي كانت تغمر أراضي النوبيين ومساكنهم فيضطرون للهجرة في ظل ظروف سيئة بلا مأوى أو تعويض مناسب عن ممتلكاتهم. وانتظر النوبيون –كغيرهم من فقراء مصر- أن تعود التنمية عليهم بشئ فلم يجدوا سوى مزيد من الإفقار.
النوبيون .. الإفقار بالتنمية ! كانت أولى مراحل التشتت التى واجهها النوبيون، فى العصر الحديث، خلال القرن التاسع عشر بعد فرض ترسيم الحدود بين مصر والسودان بشكل قسري لم يراعي التجمعات البشرية وخصوصيتها. فقد صدر عام 1841 فرمان الخليفة العثماني بترسيم الحدود الجنوبية لمصر، ثم تلا ذلك قرار وزير الداخلية بتعديل حدود مصر والسودان بناءاً على الاتفاقية الثنائية بين مصر والاحتلال البريطانى عام 1899، حيث تم فصل عشرة قرى نوبية تابعة لمركز حلفا بمحافظة النوبة وهى القرى الواقعة جنوب خط عرض 22 لتدخل ضمن حدود السودان. أما الجزء الواقع داخل الحدود المصرية فقد امتد من قرية أدندان جنوباً حتى الشلال شمالاً وقد بلغ تعداد سكانها آنذاك 34,942 ألف نسمة، ويبلغ زمامها 17,142 ألف فداناً، كما تم تغيير اسم محافظة النوبة التى كانت معروفة بمديرية الحدود إلى مديرية أسوان. وهكذا فصلت الحدود الإدارية التى وضعها الإستعمار بين أبناء النوبة ليواجهوا بعد ذلك صعوبات فى التواصل فيما بينهم.
ورغم ذلك بدأت المحنة الحقيقية لأبناء النوبة مع بداية تفكير الدولة المصرية فى التحكم فى مياه النهر بشكل أكبر للاستفادة من المياه المهدرة وقت الفيضان حتى يمكن التوسع فى زراعة أراض جديدة والتحول من نظام رى الحياض إلى الرى الدائم. فكان التفكير فى إنشاء سد فى الجنوب عند أسوان. وبالفعل تم بناء خزان أسوان شمال قرية الشلال النوبية عام 1902 ليحتجز ورائه فائض من المياه بلغ منسوبه 106 متراً مما تسبب فى إغراق أراضى النوبة بما عليها من مساكن ومزروعات وسواقى ونخيل فى عشر قرى نوبية هى. وبينما كانت تجرى عمليات البناء تشكلت لجان لتقدير تعويضات النوبيين عن أملاكهم، حيث تم تصنيف هذه التعويضات إلى قسمين. الأول يشمل الأراضي التى تغمرها مياه الخزان وتنحسر عنه بعد فتحه فيتم زراعتها، وفى هذه الحالة سوف تدفع الحكومة ثمن النخيل والمساكن. أما القسم الثانى من التعويضات فيندرج تحته الأراضي التي تغمرها المياه طوال السنة فلا ينتفع بها، وفى هذا القسم تلتزم الحكومة بدفع ثمن الأرض والمساكن والنخيل. وقدرت هذه التعويضات بـ 80 ألف جنيه، وهو مبلغ هزيل، الأمر الذى رفضه النوبيون. إلا أن الحكومة لم تلتفت إلى مطالب النوبيين وتم استصدار أمر عال بنزع الملكية للمنفعة العامة فى أول يوليو 1902.
ثم جاءت التعلية الأولى للخزان عام 1912 ليرتفع منسوب المياه إلى 114 متراً وتغرق ثمانية قرى نوبية أخرى. وفى عام 1933 تمت التعلية الثانية للخزان ليصل منسوب المياه إلى 121 متراً لتغرق للمرة الثالثة، عشرة قرى نوبية أخرى، بينما أضيرت بقية القرى النوبية الإحدى عشر الأخرى والممتدة من الخزان حتى الحدود المصرية السودانية.
وفىعام 1932 وأثناء التعلية الثانية لخزان أسوان، وجدت الحكومة آنذاك أن هناك ضرورة لتقنين وضعية النوبيين المتضرريين من جراء عمليات ضبط النهر. فكان القانون رقم 6 لسنة 1933 الخاص بنزع ملكية أهالى النوبة وتقدير التعويضات اللازمة لمواجهة كوارث أعوام 1902 و1912 و 1932، وذلك على الرغم من وجود قانون ينظم عملية نزع ملكية العقارات بشكل عام هو قانون رقم 27 لسنة 1906 ورقم 5 لسنة 1907. وربما أرادت الحكومة وضع قانون خاص بالنوبة حتى تتفادى التكلفة الكبيرة للتعويضات التى ستدفع للنوبيين من جراء نزع ملكياتهم، الأمر الذى يبدو بوضوح فى مبالغ التعويضات الهزيلة التى حصل عليها النوبيون آنذاك، حيث بلغ إجمالى مبلغ التعويض الذى رصدته الحكومة مليون وسبعمائة ألف جنيه خصم منها بعد ذلك نصف مليون جنيه، فى حين يشير أحد التقديرات إلى أن الحد الأدنى للتعويضات بأسعار ذلك الوقت لا يقل عن ثلاثة ملايين وستمائة ألف جنيه.
مع حركة يوليو وتفكير الضباط الأحرار فى بناء دولة قوية متحررة من الإستعمار ومكتفية ذاتياً عبر التنمية الشاملة، كان لزاماً على الدولة أن تفكر فى مزيد من ضبط النهر لتحقيق الاستفادة القصوى من المياه العذبة لاستغلالها فى زيادة رقعة الأراضي الزراعية المستصلحة على ضفتي النهر. فكانت فكرة بناء سد ضخم عند أسوان يقوم بهذه المهمة ويصبح مصدراً للطاقة الكهربائية. ورغم أن السد العالي جسد حلماً وطنياً فى المعركة ضد الاستعمار وتحقيق التنمية الشاملة فى مصر، إلا أنه مرة أخرى جاء وبالاً على أهالى النوبة. فقد تسبب السد فى أكبر عملية تهجير وتشريد لهم فى العصر الحديث، بعد أن غمرت مياه بحيرة السد قراهم ومنازلهم وأراضيهم.
ومن المثير للدهشة هنا أن الدولة أصدرت فى عام 1962 القانون رقم 67 لنفس العام والخاص بنزع ملكية أراضى النوبة التى ستغمرها مياه السد العالى، كما صدر القرار رقم 106 لسنة 1964 بشأن تعويض وتمليك وإسكان أهالى النوبة، وذلك رغم وجود قوانين سابقة تنظم عملية نزع ملكية العقارات.
السبب وراء هذا هو ما رأته الدولة آنذاك من أن القوانين المنظمة لعملية نزع الملكية سوف تعرقل انجاز عملية التهجير إذا ما اتبعت الإجراءات المنصوص عليها فى تلك القوانين. فهذه القوانين تعطي الحق للمتضررين من جراء نزع الملكية وما يرتبط بها من تعويضات اللجوء إلى القاضى الطبيعي للفصل فى القضية، فى حين جعل القانون الجديد هذا الحق فى يد لجنة إدارية مكونة من قاضي تختاره وزارة العدل ومندوبين وزارة الشئون الإجتماعية ووزارة الأشغال، وممثل لمحافظة أسوان. والدولة بتفويض هذه اللجنة للبت فى الشكاوي المترتبة على نزع الملكية تكون قد نصبت نفسها خصماً وحكماً فى نفس الوقت. بدا ذلك جلياً فى الإجراءات التى نص عليها القانون فى حالة الشكوى من نزع الملكية، والتى هى تعد فى مجملها إجراءات تعجيزية، الأمر الذى ترتب عليه إهدار الكثير من حقوق النوبيين المتضررين من عملة التهجير.
فى هذا السياق تم تقدير تعويضات النوبيين بـ 6.036.818 جنيه، بواقع 1.973.478جنيه لعدد 1.044.380نخلة حيث قدر ثمن انخة الواحدة بـ 1.89قرش، كما قدرت التعويضات على المساكن بـ 1.886.700جنيه لعدد 35.966 مسكن، أي أن ثمن المسكن الواحد قدر بـ 52.458 جنيه، وبالنسبة للأراضي الزراعية والتي بلغت في ذلك الوقت 15.957 فدان قدرت قيمة التعويضات عنها بـ 2.155.720جنيه، بواقع 135.1 جنيه، أما السواقي والآبار التي بلغ عد دها آنذاك 1.064، قدرت قيمتها بـ 20.920 جنيه. أما السواقي والآبار التي بلغ عد دها آنذاك 1.064، قدرت قيمتها بـ 20.920 جنيه. وعلى الرغم من هزال هذه التعويضات مقارنة بحجم المعاناة التى تكبدها النوبيون من جراء الترحيل، فإنها لم تنفذ بالكامل. فقد صرفت نصف التعويضات فقط وقيمتها 3,458,000 ألف جنيه. ومنذ بدء التهجير فى 18/10/1963 بقرية دابور وحتى نهايته فى بقرية أبو حنضل لم تكن جميع المساكن البديلة المخصصة للنوبيين قد اكتملت. حيث تم اسكان 15,107 ألف أسرة بواقع 15,030 ألف منزل، بينما ظل بقية الأهالى يقيمون فى مخيمات أو عند ذويهم ممن تسلموا مساكن حتى تم استكمال باقى المنازل وعددها 918 منزل. أما منازل المغتربين وعددها 8467 منزل فقد بدء إنشاءها عام 1976 أى بعد 12 عام من التهجير، أضيف إليها 636 منزل تحت مسمى تيسيرات ليصبح الإجمالى 9103. ووفقاً لتقرير لجنة الإسكان والمرافق العامة والتعمير عقب الزيارة الميدانية التى قامت بها في مارس 1998 فإن إجمالى ما تم بنائه من هذه المساكن 2829 منزل، ليصبح المتبقى 6274 منزل لم يستكمل حتى الآن.
كيف تعود حقوق النوبيين؟للإجابة على هذا التساؤل يجب علينا الإجابة أولاً على سؤال آخر، من اغتصب حقوق النوبيين؟ بمعنى آخر من هو عدو النوبيين الحقيقي؟ هل هو حكم الشماليين المختلفون لغوياً وثقافياً وفي اللون، والذين ينظرون لأهل النوبة نظرة دونية، كما يحاول البعض تصدير ذلك؟ أم هم أعداء الحضارة النوبية المزعومة كما يحاول آخرون تصوير القضية؟ كل هذه التصورات في رأينا لا تعدو كونها أمراض أنتجها العدو الحقيقي الذي تسبب في تهميش النوبيين. فكما رأينا فإن قضية النوبة تمتد لما يقرب من قرن من الزمان، تعاقبت خلالها نظم حكم مختلفة نال منها النوبيون نصيب وافر من التهجير والتشريد والإفقار. لكن الملاحظة الهامة هنا هي أن سياسات جميع هذه النظم كانت تعبيراً عن طموحات الطبقات الرأسمالية الحاكمة في إحداث مزيد من التنمية، ليس بهدف تلبية احتياجات البشر وتوفير الرفاهية لهم، ولكن لتحقيق مزيد من تراكم رأس المال والأرباح حتى لو كان ذلك على حساب حياة الملايين من الفقراء. فمن المستفيد الأول من تحويل ري الحياض إلى ري دائم بعد بناء خزان أسوان، ألم يكن كبار ملاك الأرض الذين استعبدوا فقراء الفلاحين في وساياهم؟ حتى بعد حركة يوليو، ورغم كل المكتسبات التي حققها الإصلاح الزراعي للفلاحين، وكل طموحات التصنيع والتنمية المستقلة، هل تحسنت أحوال النوبيين؟ هل تحسنت أوضاع فقراء الفلاحين، أم تم نزع فائض التنمية إلى خزينة الدولة وطبقة البيروقراطية العسكرية التي خلقتها حركة الجيش؟ واليوم في ظل سياسات الليبرالية الجديدة والتنمية المزعومة والتي يجري جزء منها على ضفاف النهر هناك في مناطق النوبة القديمة ببناء قرى ومنتجعات سياحية تدر ملايين الأرباح، هل عادت تلك التنمية بشئ على فقراء مصر ومنهم النوبيين، أم أن الأرباح تتراكم بالمليارت في حسابات الرأسماليين الكبار؟
إذاً فالمشترك الأساسي بين كافة الأنظمة التي عانى النوبيون تحت حكمهما أنها جميعاً أنظمة طبقية تعمل لصالح رأس المال وتخلق التنمية التي توفر لهم مزيداً من الأرباح، وليس تلك التنمية التي توفر احتياجات البشر ورفاهيتهم ذلك النمط من التنمية الذي لتي يمكن للنوبيين وغيرهم رؤيته بوضوح. والحقيقة التنمية الرأسمالية لم ينعكس بالإفقار والقهر والاضطهاد على النوبيين فقط وإنما علي كافة الفقراء من مختلف فئات المجتمع وطبقاته. فهذه السياسات الرأسمالية هي التي شردت آلاف العمال بالخصخصة والمعاش المبكر وأفقرت آلاف آخرين بوضعهم تحت رحمة الاستثمار في ظروف عمل أشبه بالعبودية. هذه السياسات أيضا هي التي شردت آلاف الفلاحين وطردتهم من أراضيهم بقانون 92 لسنة 1992، وقتلت منهم العشرات في معارك مع الأمن لتسليم الأرض للإقطاعيين الجدد. هذا النظام هو أيضاً من شرد العشرات من أهالي قلعة الكبش بحي السيدة زينب بهدم عششهم فوق رؤوسهم. هذا النظام وهذه السياسات هي نفسها التي تتجاهل صرخات أهل النوبة المطالبة بحقوقهم في حياة إنسانية كريمة تنتشلهم من مستنقع الفقر والبطالة وانعدام الخدمات والتمييز.
هذا هو العدو الحقيقي للنوبيين وكل الفقراء والمضطهدين في مصر، إنها الطبقة الحاكمة وسياساتها. لذلك وحتى لا ينحرف نضال النوبيين في المطالبة بحقوقهم إلي متاهات العنصرية والعرقية، فإن نضالهم الحقيقي هو نضال كل الفقراء والمهمشين لإسقاط هذا النظام وسياساته وخلق نظام جديد يسعى لتنمية في البشر وليس لصالح الأرباح.
وإعادة فتح ملف التعويضات الهزيلة للنوبيين قبل الهجرة بحيث لا تتناسب مع حجم التضحيات التى قدموها من اجل مصر التي تم صرفها للنوبيين قبل الهجرة في ظل القانون رقم 62 لسنه 1967 لعدم تناسبها مع فداحة
الأضرار الجسيمة المادية والادبيه التي لحقت بأهالي النوبة عند التهجير في عام 1963فى أملاكهم من( مساكن – أراضى زراعية – أشجار
ونخيل والسواقى ) ولأنها حق أصيل وحتى نتمكن من المطالبة بإعادة حصر منازل وأراضى أهالي النوبة مرة أخرى فى ظل القانون رقم 10 لسنة 1990 بشأن نزع ملكية العقارات والذى ألغى كافة القوانين المنتظمة لأعمال نزع
عند بداية عملية التهجير قدرت الحكومة قيمة التعويضات التي تصرف للنوبيين كالآتي :
اطيان زراعية 15.957 فدان التقدير (الثمن ) 2.155.720 جنيه مصري
النخيـــل 1.044.380 نخلة التقدير (الثمن ) 1.973.4780 جنيه مصري
السواقي 1.064 ساقية التقدير (الثمن ) 20.920جنيه مصري
المباني 35.966 منزل التقدير (الثمن ) 1.886.700جنيه مصري
هذه المبالغ الهزيلة تم تقديرها على أسعار عامي 1902و1912 وتم صرف نصف قيمتها عامي 63 و1964 دون أي مراعاة لفروق الأسعار والتضخم الذي صار مع مرور السنين، فهل يعقل أن تقدر ثمن النخلة بخمسين قرشا وأحيانا بعشرة قروش، وفدان الأرض بأربعين جنيها وأحيانا بعشرين جنيها، أما الغرفة المسقوفة في المسكن فقدرت بخمسة جنيهات فقط. هكذا أمر من بيده السلطة والتسلط وهي قرارت إذعان على مواطنين في حالة ضعف وضياع، وكما يقول الأستاذ إبراهيم عبد الرسول (مرجع رقم 1 ص97) النخلة في رشيد بثلاثة وأربعين جنيها وفي النوبة المصرية تساوي خمسون قرشا وفي النوبة السودانية فبخمسة عشر جنيها، علما بأن نوعيات البلح الإبريمي في مصر هو نفس البلح الإبريمي هناك. يذكر ماهر ذكي في كتابه (مرجع رقم ص130) إجمالي الميزانية التي تم صرفها في عملية التهجير في البنود الآتية:
بناء مساكن النوبة الجديدة 18450000 جنية
التعويضات للأهالي 200000 جنية
تكاليف حصر الممتلكات 462000 جنية
المساعدات والإغاثة 820000 جنية
النقل المائي 300000 جنية
النقل البرى 84000 جنية
المصروفات الإدارية 250000 جنية
تكاليف إصلاح 15 ألف فدان بكوم أمبو 4366000 جنية
الإجمالي العام 24932000 جنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق